فصل: تفسير الآيات (5- 7):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قُلْت الْكَلَامُ يَسْتَدْعِي مُسْنَدًا وَمُسْنَدًا إلَيْهِ وَنِسْبَةً، فَإِذَا قُلْت زَيْدٌ قَائِمٌ، فَزَيْدٌ مُسْنَدٌ إلَيْهِ وَقَائِمٌ مُسْنَدٌ، وَالنِّسْبَةُ عُلِمَتْ عِنْدَ السَّامِعِ بِقَرِينَةِ تَرْتِيبِ الْمُتَكَلِّمِ قَائِمٌ عَلَى زَيْدٍ؛ وَيُعَبَّرُ عَنْهَا بِالرَّابِطِ، فَتَقُولُ زَيْدٌ هُوَ قَائِمٌ؛ فَتَصِيرُ الْقَضِيَّةُ ثُلَاثِيَّةً بَعْدَ أَنْ كَانَتْ ثُنَائِيَّةً، وَإِذَا قُلْت قَامَ زَيْدٌ فَزَيْدٌ مُسْنَدٌ إلَيْهِ وَقَامَ فِيهِ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا الْمُسْنَدُ؛ وَهُوَ الْقِيَامُ، دَلَّ عَلَيْهِ بِمَادَّتِهِ؛ وَالثَّانِي النِّسْبَةُ دَلَّ عَلَيْهَا بِصُورَتِهِ الَّتِي امْتَازَ الْفِعْلُ بِهَا عَنْ الِاسْمِ وَهِيَ الدَّلَالَةُ عَلَى الْوُقُوعِ بِالزَّمَانِ الْمَاضِي؛ وَلِذَلِكَ لَمْ يَحْتَجْ إلَى رَابِطٍ وَكَانَ فِي قُوَّةِ الْقَضِيَّةِ الثُّلَاثِيَّةِ الِاسْمِيَّةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى.
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَدْ بَدَا لِي أَنْ أَخْتَصِرَ الْكَلَامَ عَلَى {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا} سَادَّةٌ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ.
و{أَنْ يَقُولُوا} تَعْلِيلٌ لَهُ {وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} حَالٌ مِنْهُ، وَهُمَا مَعْمُولَانِ لِيُتْرَكُوا وَهُوَ مُقَيَّدٌ بِهِمَا.
وَالْمُنْكَرُ حُسْبَانُ التَّرْكِ الْمَخْصُوصِ لَا مُطْلَقُ التَّرْكِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ {أَنْ يَقُولُوا} تَعْلِيلًا لِحَسِبَ.
وَيَكُونُ {أَحَسِبَ} هُوَ الْعَامِلُ فِيهِ.
وَأَنْ يَكُونَ {وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} حَالًا مِنْ {يَقُولُوا} وَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: إنَّ أَنْ يُتْرَكُونَ أَوَّلُ مَفْعُولَيْ {أَحَسِبَ} لَا دَلِيلَ لَهُ.
وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ النُّحَاةِ يَرُدُّهُ، لِأَنَّهُمْ أَطْلَقُوا إنَّ أَنْ وَصِلَتَهَا سَادَّةٌ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ، أَوْ أَنَّ الثَّانِيَ مَحْذُوفٌ وَقَوْلُهُ: تَقْدِيرُهُ أَحَسِبُوا تَرْكَهُمْ حَمَلَهُ عَلَيْهِ قَوْلُ النُّحَاةِ: إنَّ أَنْ وَالْفِعْلَ فِي تَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ، وَلَكِنْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ فَإِنَّ أَنْ وَالْفِعْلَ يَدُلُّ عَلَى الْحُدُوثِ، وَهُوَ مَعْنًى تَصْدِيقِي، بِخِلَافِ الْمَصْدَرِ الصَّرِيحِ وَدَلَالَتُهُ عَلَى الْمَعْنَى التَّصَوُّرِيِّ فَقَطْ، وَجَعْلُهُ التَّرْكَ بِمَعْنَى التَّصْيِيرِ لَا دَلِيلَ لَهُ.
وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِذَلِكَ وَلِغَيْرِهِ.
وَالْبَيْتُ الَّذِي أَنْشَدَهُ مُحْتَمِلٌ لَهُمَا.
وَقَوْلُهُ فِي كَلَامِهِ غَيْرُ مَفْتُونِينَ يَحْتَمِلُ الْمَفْعُولَ وَالْحَالَ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ سَبَكَهُ مِنْ قوله: {وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} وَعِنْدَهُ أَنَّ {أَنْ يَقُولُوا} خَبَرٌ، فَهُوَ أَجْنَبِيٌّ فَاصِلٌ بَيْنَ أَبْعَاضِ الصِّلَةِ. وَهُوَ لَا يَجُوزُ.
وَالْأَمْثِلَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مِنْ خُرُوجِهِ لِمَخَافَةِ الشَّرِّ وخَرَجْت مَخَافَةَ الشَّرِّ وحَسِبْت خُرُوجَهُ لِمَخَافَةِ الشَّرِّ لَيْسَتْ نَظِيرَ الْآيَةِ لِاحْتِمَالِ الْآيَةِ وَتَعَيُّنِ ذَكَرِ وَاحِدٍ مِمَّا ذَكَرَهُ مِنْ الْأَمْثِلَةِ لِمَعْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى.
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ رَضِيَ عَنْهُ {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا} قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْحُسْبَانُ لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِمَعَانِي الْمُفْرَدَاتِ وَلَكِنْ بِمَضَامِينِ الْجُمَلِ، أَلَا تَرَى أَنَّك لَوْ قُلْت: حَسِبْت زَيْدًا، وَظَنَنْت الْفَرَسَ، لَمْ يَكُنْ شَيْئًا حَتَّى تَقُولَ: حَسِبْت زَيْدًا عَالِمًا، وَظَنَنْت الْفَرَسَ جَوَادًا، لِأَنَّ قَوْلَك: زَيْدٌ عَالَمٌ أَوْ الْفَرَسُ جَوَادٌ، كَلَامٌ دَالٌّ عَلَى مَضْمُونٍ، فَأَرَدْت الْإِخْبَارَ عَنْ ذَلِكَ الْمَضْمُونِ ثَابِتًا عِنْدَك عَلَى وَجْهِ الظَّنِّ لَا الْيَقِينِ، فَلَمْ تَجِدْ بُدًّا فِي الْعِبَارَةِ عَنْ ثَبَاتِهِ عِنْدَك عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ: مِنْ ذِكْرِك شَطْرَيْ الْجُمْلَةِ: مُدْخِلًا عَلَيْهِمَا فِعْلَ الْحُسْبَانِ حَتَّى يَتِمَّ لَك غَرَضُك فَإِنْ قُلْت فَأَيْنَ الْكَلَامُ الدَّالُ عَلَى الْمَضْمُونِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْحُسْبَانُ فِي الْآيَةِ؟ قُلْت هُوَ فِي قوله: {أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} وَذَلِكَ أَنَّ تَقْدِيرَهُ أَحَسِبُوا تَرْكَهُمْ غَيْرَ مَفْتُونِينَ لِقَوْلِهِمْ آمَنَّا.
فَالتَّرْكُ أَوَّلُ مَفْعُولَيْ {أَحَسِبَ} وَلِقَوْلِهِمْ آمَنَّا هُوَ الْخَبَرُ وَأَمَّا غَيْرَ مَفْتُونِينَ فَتَتِمَّةُ التَّرْكِ لِأَنَّهُ مِنْ التَّرْكِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى التَّصْيِيرِ، كَقَوْلِهِ فَتَرَكْته جَزْرَ السِّبَاعِ يَنُشْنَهُ أَلَا تَرَى أَنَّك قَبْلَ الْمَجِيءِ بِالْحُسْبَانِ تُقَدِّرُ أَنْ تَقُولَ تَرْكَهُمْ غَيْرَ مَفْتُونِينَ لِقَوْلِهِمْ آمَنَّا عَلَى تَقْدِيرٍ حَاصِلٍ وَمُسْتَقِرٍّ قَبْلَ اللَّامِ فَإِنْ قُلْت {أَنْ يَقُولُوا} هُوَ عِلَّةُ تَرْكِهِمْ غَيْرَ مَفْتُونِينَ فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَقَعَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ؟ قُلْت كَمَا تَقُولُ خُرُوجُهُ لِمَخَافَةِ الشَّرِّ، وَضَرْبُهُ لِلتَّأْدِيبِ وَقَدْ كَانَ التَّأْدِيبُ وَالْمَخَافَةُ فِي قَوْلِك خَرَجْت مَخَافَةَ الشَّرِّ وَضَرَبْته تَأْدِيبًا تَعْلِيلَيْنِ، وَتَقُولُ أَيْضًا حَسِبْت خُرُوجَهُ لِمَخَافَةِ الشَّرِّ، وَظَنَنْت ضَرْبَهُ لِلتَّأْدِيبِ فَتَجْعَلُهُمَا مَفْعُولَيْنِ كَمَا جَعَلْتهمَا مُبْتَدًَا وَخَبَرًا.
قال الشيخ الْإِمَامُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي هَذَا الْكَلَامِ عَلَيْهِ أَسْئِلَةٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُتَبَادِرَ إلَى فَهْمِ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ مِنْ الْآيَةِ إنْكَارُ حُسْبَانِهِمْ التَّرْكَ وَكَلَامُهُ يَقْتَضِي أَنَّ مُطْلَقَ التَّرْكِ لَيْسَ بِمُنْكَرٍ، وَإِنَّمَا الْمُنْكَرُ كَوْنُ التَّرْكِ لِقَوْلِهِمْ وَالْجَوَابُ أَنَّ الْحَقَّ مَا اقْتَضَاهُ كَلَامُهُ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} أَيْ لَا يُؤْمَرُ وَلَا يُنْهَى.
وَذَلِكَ لَا يَكُونُ.
فَلَا يَزَالُ الْعَبْدُ تَحْتَ التَّكَالِيفِ وَآيَةُ الْعَنْكَبُوتِ مَعْنَاهَا التَّرْكُ مِنْ الْفِتْنَةِ الَّتِي يُمْتَحَنُ بِهَا صِحَّةُ إيمَانِهِ وَدُخُولُهُ فِي قَلْبِهِ وَصِدْقُهُ فِي قوله: {آمَنَّا} وَمَنْ تَأَمَّلَ الْآيَةَ عَلِمَ ذَلِكَ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّ لِلنُّحَاةِ مَذْهَبَيْنِ أَصَحُّهُمَا أَنَّ أَنْ وَصِلَتَهَا تَسُدُّ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ.
وَالثَّانِي أَنَّ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ ثَابِتًا.
فَظَاهِرُ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمَا مَذْكُورَانِ؛ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْمَذْهَبَيْنِ وَيُوَكِّدُ هَذَا السُّؤَالَ أَنَّهُ جَعَلَ قوله: {أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا} سَادًّا مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ حَيْثُ تَمَّ الْكَلَامُ فَأَنْ وَالْفِعْلُ سَدَّتْ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ.
عَلَى الصَّحِيحِ.
وَقَدَّرَ الثَّانِيَ مَحْذُوفًا عَلَى الْمَذْهَبِ الْآخَرِ كَمَا فِي قوله: {أَنْ يَسْبِقُونَا} فَإِنَّ الْكَلَامَ تَمَّ بِهِ.
أَمَّا قَوْلُ: {أَنْ يُتْرَكُوا} فَلَمْ يَتِمَّ الْكَلَامُ عِنْدَهُ، وَلَمَّا قُلْنَا أَنَّ الْمُنْكَرَ كَوْنُ التَّرْكِ لِقَوْلِهِمْ: لَا مُطْلَقُ التَّرْكِ.
فَلَا شَكَّ فِي احْتِيَاجِ الْكَلَامِ إلَى تَتِمَّةٍ كَمَا ذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ، لَكِنَّ تِلْكَ التَّتِمَّةَ مَفْعُولٌ آخَرُ أَوْ غَيْرُهُ، ظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّهُ مَفْعُولٌ آخَرُ.
وَنَحْنُ نُخَالِفُهُ، فَنَحْنُ لَمْ نُخَالِفْ النُّحَاةَ فِي وِرْدٍ وَلَا صَدْرٍ، وَهُوَ إذَا جَعَلَ الْمَفْعُولَيْنِ مَذْكُورَيْنِ قَدْ يُقَالُ إنَّهُ مُخَالِفٌ لِلنُّحَاةِ مُنْتَحِلٌ مَذْهَبًا ثَالِثًا، وَقَدْ يُقَالُ إنَّ الْمَذْهَبَيْنِ إنَّمَا هُمَا فِيمَا إذَا تَمَّ الْكَلَامُ بِأَنْ وَالْفِعْلِ الدَّاخِلَةِ حَسِبَ عَلَيْهِمَا دَالَّةٌ عَلَى مَعْنَى الْحُدُوثِ الَّذِي هُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّصْدِيقِ، وَذَلِكَ مِمَّا اُخْتِيرَتْ لَهُ أَنْ وَالْفِعْلُ دُونَ صَرِيحِ الْمَصْدَرِ فَإِنَّ صَرِيحَ الْمَصْدَرِ يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى التَّصَوُّرِيِّ فَقَطْ إمَّا جِنْسُ الْمَصْدَرِ وَإِمَّا نَوْعُهُ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِوُقُوعِهِ أَوْ عَدَمِ وُقُوعِهِ، كَمَا يُشْعِرُ بِهِ أَنْ وَالْفِعْلُ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ حَيْثُ قَصَدَ الْمَعْنَى التَّصَوُّرِيَّ اُحْتِيجَ إلَى مَفْعُولٍ آخَرَ، وَحَيْثُ قَصَدَ الْمَعْنَى التَّصْدِيقِيَّ أَغْنَتْ عَنْ الْمَفْعُولَيْنِ، فَهَلْ يَأْتِي أَنْ وَالْفِعْلُ وَيُرَادُ بِهَا الْمَعْنَى التَّصَوُّرِيُّ فَقَطْ: هَذَا مِمَّا عِنْدَنَا فِيهِ نَظَرٌ، يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالُ يَجُوزُ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} مَعْنَاهُ وَصَوْمُكُمْ وَقَعَ مُبْتَدًَا وَكُلُّ مَا وَقَعَ مُبْتَدًَا يَقَعُ مَفْعُولًا أَوَّلَ لِحَسِبَ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ إنَّ أَنْ لَا تَخْرُجُ عَنْ الدَّلَالَةِ عَلَى الْحُدُوثِ وقَوْله تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا} أُشِيرَ بِهِ إلَى وُقُوعِ الصَّوْمِ مِنْهُمْ وَلِذَلِكَ كَانَ خَيْرًا لَهُمْ؛ وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: حَسِبْت أَنْ تَقُومَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَقْعُدَ؟ فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ وَكَانَ مِثْلُهُ مَسْمُوعًا مِنْ الْعَرَبِ كَانَ ذِكْرُ الْمَذْهَبَيْنِ حَاصِلًا بِبَعْضِ مَوَارِدِهَا، وَهُوَ مَا إذَا تَمَّ الْكَلَامُ دُونَ مَا إذَا لَمْ يُتِمَّ؛ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ وَلَمْ يُسْمَعْ ذَلِكَ مِنْ الْعَرَبِ أَجْرَيْنَا كَلَامَ النُّحَاةِ عَلَى ظَاهِرِهِ؛ وَرَدَدْنَا كَلَامَ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي اقْتِضَائِهِ التَّصْرِيحَ بِالْمَفْعُولَيْنِ.
وَاَلَّذِي نَذْهَبُ نَحْنُ إلَيْهِ لَا يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ أَنِّي أَجْعَلُ {أَنْ يُتْرَكُوا} سَادًّا مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ مَعَ تَقْيِيدِ التَّرْكِ بِمَا بَعْدَهُ مِنْ {أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا} وَهُوَ عِلَّةُ التَّرْكِ {وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} وَهُوَ حَالٌ مِنْهُ وَالْفِعْلُ يَتَقَيَّدُ بِعِلَّتِهِ وَحَالِهِ وَالْعَامِلِ فِيهِمَا {يُتْرَكُوا} وَهُمَا مَعَ {يُتْرَكُوا} مِنْ صِلَةِ {أَنْ} وَيَجُوزُ تَقْدِيمُ الْحَالِ عَلَى الصِّلَةِ وَتَأْخِيرُهُ عَنْهَا لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا فِي آخَرِ الصِّلَةِ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعِلَّةَ الْمَذْكُورَةَ وَهِيَ قوله: {أَنْ يَقُولُوا} وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّرْكِ كَمَا قُلْنَا أَوْ لِلْحُسْبَانِ، وَهُوَ مُحْتَمَلٌ أَيْضًا.
وَمَعْنَاهُ رَاجِعٌ إلَى الْأَوَّلِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ {وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} حَالًا مِنْ الضَّمِيرِ فِي {يَقُولُوا} وَالْمُنْكَرُ حُسْبَانُ التَّرْكِ الْمُقَيَّدِ بِالصِّفَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ، هَذَا قَوْلِي.
وَأَمَّا الزَّمَخْشَرِيُّ فَيَجْعَلُ {أَنْ يُتْرَكُوا} مَفْعُولًا أَوَّلَ و{أَنْ يَقُولُوا} مَفْعُولًا ثَانِيًا وَإِنْ سَمَّاهُ خَبَرًا.
وَيَجْعَلُهُ مَعْمُولًا لِمَحْذُوفٍ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِقوله: {وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} إلَّا أَنَّهُ قَالَ: غَيْرُ مَفْتُونِينَ فَإِنْ جَعَلَ قوله: {وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} مَفْعُولًا ثَانِيًا كَتَرْكِهِمْ لَمْ يَصِحَّ لِأَجْلِ الْوَاوِ، وَلِأَجْلِ الْفَصْلِ، وَإِنْ جَعَلَهُ حَالًا لَمْ يَصِحَّ لَهُ جَعْلُهَا مِنْ التَّرْكِ بِمَعْنَى التَّصْيِيرِ، فَكَلَامُهُ عَجِيبٌ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: الْمَضْمُونُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْحُسْبَانُ هُوَ فِي قوله: {أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} لَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِمَقْصُودِهِ، لِأَنَّهُ يَصِحُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ مِنْ كَوْنِهَا سَادَّةً مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ أَنَّ الْمَضْمُونَ فِيهَا، لَكِنَّ قَوْلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بَيَّنَ مُرَادَهُ.
السُّؤَالُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ تَقْدِيرُهُ أَحَسِبُوا تَرْكَهُمْ، حَمَلَهُ عَلَيْهِ قَوْلُ النُّحَاةِ إنَّ أَنْ وَالْفِعْلَ بِتَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ وَلَكِنْ قَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَلَنَا أَنْ نَمْنَعَهُ بِذَلِكَ الْفَرْقِ أَنَّ تَقْدِيرَهُ ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ الْمَعْنَى.
السُّؤَالُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ غَيْرَ مَفْتُونِينَ وَتَقْدِيرُهُ فِي هَذَا الْمَحِلِّ وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِتَرْكِهِمْ فَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ بِذَلِكَ أَنَّهُ مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} مِنْ تَمَامِ الصِّلَةِ وَقَدْ فُصِلَ بَيْنَهُمَا بِقوله: {أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا} وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ عَنْهَا لِأَنَّهُ خَبَرٌ عَنْ الْمَوْصُولِ.
وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ غَيْرَ ذَلِكَ صَارَ تَقْدِيرُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِلَا دَلِيلٍ وَذِكْرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ نَتَعَرَّضْ لَهُ.
السُّؤَالُ السَّادِسِ: قَوْلُهُ إنَّ التَّرْكَ بِمَعْنَى التَّصْيِيرِ مَا الدَّاعِي إلَيْهِ وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِذَلِكَ، وَلَأَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى التَّخْلِيَةِ وَالْإِهْمَالِ: وَكِلَاهُمَا مُحْتَمَلُ الْبَيْتِ الَّذِي أَنْشَدَهُ؟.
السُّؤَالُ السَّابِعُ: حَيْثُ جَعَلَهُ بِمَعْنَى التَّصْيِيرِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَفْتُونِينَ مَفْعُولًا ثَانِيًا وَالْوَاوُ فِي {وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} تَمْنَعُ مِنْهُ.
السُّؤَالُ الثَّامِنُ: تَعْلِيلُهُ كَوْنَ غَيْرَ مَفْتُونِينَ مِنْ تَتِمَّةِ التَّرْكِ بِأَنَّ التَّرْكَ بِمَعْنَى التَّصْيِيرِ وَهُوَ مِنْ تَتِمَّةِ التَّرْكِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ أَجَعَلْنَاهُ بِمَعْنَى التَّصْيِيرِ أَمْ لَا، لَكِنْ إنْ جَعَلْنَاهُ بِمَعْنَى التَّصْيِيرِ كَانَ ذَلِكَ مُتَحَتِّمًا أَنَّهُ مِنْ تَتِمَّتِهِ وَإِنْ لَمْ نَجْعَلْهُ لَمْ يَتَحَتَّمْ، لَكِنَّ الْمَعْنَى سَاقَ إلَيْهِ فَجَعَلْنَا مَا بَعْدَهُ عِلَّةً وَحَالًا مُقَيَّدَةً.
السُّؤَالُ التَّاسِعُ: قَوْلُهُ فِي سُؤَالِ نَفْسِهِ {أَنْ يَقُولُوا} هُوَ عِلَّةُ تَرْكِهِمْ غَيْرَ مَفْتُونِينَ مُرَادُهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الصِّنَاعَةُ فَيَسْتَحِيلُ مَعَ جَعْلِهِ خَبَرًا أَنْ يَكُونَ عِلَّةً فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ نُبَيِّنَ ذَلِكَ حَتَّى لَا يَحْصُلُ الِالْتِبَاسُ فِي الْجَوَابِ.
السُّؤَالُ الْعَاشِرُ: قَوْلُهُ فِي الْجَوَابِ كَمَا تَقُولُ خُرُوجُهُ لِمَخَافَةِ الشَّرِّ.
قُلْت لَيْسَ مِثْلَهُ، لِأَنَّ خُرُوجَهُ مُبْتَدَأٌ وَلَيْسَ بَعْدَهُ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا غَيْرَ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ وَلَا يَحْتَمِلُ الْكَلَامُ غَيْرَ ذَلِكَ ولِقَوْلِهِمْ لَمْ يَتَعَيَّنْ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا، لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ مُحْتَمِلٌ لِلتَّمَامِ بِخِلَافِ خُرُوجِهِ فَإِنَّهُ مُفْرَدٌ لَا يَحْتَمِلُ التَّمَامَ.
قَوْلُهُ وَقَدْ كَانَ فِي خَرَجْت مَخَافَةَ الشَّرِّ تَعْلِيلًا.
قُلْت: لِأَنَّ خَرَجْت كَلَامٌ تَامٌّ فَجَاءَ التَّعْلِيلُ بَعْدَهُ وَلَمْ يَحْتَمِلْ غَيْرَ ذَلِكَ، فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْآيَةِ لِاحْتِمَالِهَا؛ وَمُخَالِفٌ لِمَا مَثَّلَ بِهِ لِمُضَادَّتِهِ إيَّاه.
قَوْلُهُ وَتَقُولُ أَيْضًا حَسِبَ خُرُوجَهُ لِمَخَافَةِ الشَّرِّ.
قُلْت لَوْ قُلْت حَسِبَ خُرُوجَهُ لِمَخَافَةِ الشَّرِّ حِسًّا لَمْ يَحْتَمِلْ غَيْرَ التَّعْلِيلِ، وَأَمَّا فِي الْمِثَالِ الَّذِي ذَكَرَهُ فَإِنَّ خُرُوجَهُ مَفْعُولٌ أَوَّلٌ وَلِمَخَافَةِ الشَّرِّ مُضْطَرٌّ إلَى أَنْ يَجْعَلَهُ مَفْعُولًا ثَانِيًا مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ، وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ لِأَنَّ خُرُوجَهُ لَا يَسُدُّ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ، وَلَيْسَ نَظِيرَ الْآيَةِ، وَإِنَّمَا نَظِيرُهَا حَسِبَ أَنْ يَخْرُجَ لِمَخَافَةِ الشَّرِّ فَإِنَّ أَنْ يَخْرُجَ سَادَّةٌ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ يَتِمُّ الْكَلَامُ بِهَا، وَلَوْ قِيلَ حَسِبَ خُرُوجَهُ بِمَعْنَى حَسِبْت أَنْ يَخْرُجَ إنْ سُمِعَ ذَلِكَ مِنْ الْعَرَبِ صَارَ نَظِيرًا لِلْآيَةِ، وَاحْتَمَلَ الْوَجْهَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى. اهـ.

.تفسير الآيات [5- 7]:

قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما خوف عباده المحسنين والمسيئين، وضربهم بسوط القهر أجمعين، أشار إلى التلويح بتهديد الكاذبين في التصريح بتشويق الصادقين فقال على سبيل الاستنتاج مما مضى: {من كان يرجو} عبر به لأن الرجاء كافٍ عن الخوف منه سبحانه: {لقاء الله} أي الجامع لصفات الكمال، فلا يجوز عليه ترك البعث فإنه نقص ومنابذ للحكمة، وشبه البعث باللقاء لانكشاف كثير من الحجب به وحضور الجزاء.
ولما كان المنكر للبعث كثيرًا، أكد فقال موضع: فإنه آت فليحذر وليبشر، تفخيمًا للأمر وتثبيتًا وتهويلًا: {فإن أجل الله} أي الملك الأعلى الذي له الغنى المطلق وجميع صفات الكمال المحتوم لذلك {لآت} لا محيص عنه، فإنه لا يجوز عليه وقوع إخلاف الوعد، ولذلك عبر بالاسم الأعظم، وللإشارة إلى أن أهوال اللقاء لا يحيط لها العد، ولا يحصرها حد، فليتعد لذلك بالمجاهدة والمقاتلة لنفسه من ينصحها، وقال تعالى: {وهو} أي وحده {السميع العليم} حثًا على تطهير الظاهر والباطن في العقد والقول والفعل.
ولما حث على العمل، بين أنه ليس إلا لنفع العامل، لئلا يخطر في خاطر ما يوجب تعب الدنيا وشقاء الآخرة من اعتقاد ما لا يليق بجلاله تعالى، فقال عاطفًا على ما تقديره: فمن أراح نفسه في الدنيا فإنما ضر نفسه: {ومن جاهد} أي بذل جهده حتى كأنه يسابق آخر في الأعمال الصالحة {فإنما يجاهد لنفسه} لأن نفع ذلك له فيتعبها ليريحها، ويشقيها ليسعدها، ويميتها ليحييها، وعبر بالنفس لأنها الأمارة بالسوء، وإنما طوى ما أدعى تقديره لأن السياق للمجاهدة، ثم علل هذا الحصر بقوله: {إن الله} أي المتعالي عن كل شائبة نقص {لغني} وأكد لأن كثرة الأوامر ربما أوجبت للجاهل ظن الحاجة، وذلك نكتة الإتيان بالاسم الأعظم، وبين أن غناه الغنى المطلق بقوله موضع عنه {عن العالمين} فلا تنفعه طاعة ولا تضره معصية.
ولما كان التقدير: فالذين كفروا وعملوا السيئات لنجزينهم أجمعين، ولكنه طواه لأن السياق لأهل الرجاء، عطف عليه قوله: {والذين آمنوا وعملوا} تصديقًا لإيمانهم {الصالحات} في الشدة والرخاء على حسب طاقتهم، واشار بقوله: {لنكفرن عنهم سيئاتهم} إلى أن الإنسان وإن اجتهد لابد أن يزل لأنه مجبول على النقص، فالصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما ما لم يؤت الكبائر، والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان ونحو ذلك مما وردت به الأخبار عن النبي المختار صلى الله عليه وسلم.
وزاده فضلًا وشرفًا لديه؛ قال البغوي: والتكفير إذهاب السيئة بالحسنة، أو لنغفرن لهم الشرك وما عملوا فيه، وأكد لأن الإنسان مجبول على الانتقام ممن أساء ولو بكلمة ولو بالامتنان بذكر العفو فلا يكاد يحقق غير ما طبع عليه.
ولما بشرهم بالعفو عن العقاب، أتم البشرى بالامتنان بالثواب، فقال عاطفًا على ما تقديره: ولنثبتن لهم حسناتهم {ولنجزينهم} أي في الإسلام {أحسن الذي كانوا} أي كونًا يحملهم على أتم رغبة {يعملون} أي أحسن جزاء ما عملوه في الإسلام وما قبله وفي طبعهم أن يعملوه. اهـ.